حتى تظل المدن شابة رغم وطأة الحياة
حتى تظل المدن شابة رغم وطأة الحياة
لا استطيع ان أخفي دهشتي من قدرة المدينة السعودية على تكرار نفسها بشكل رتيب و ممل ، كان هناك حوار طويل في ليلة رمضانية ممتعة مع صديقي المعماري .. عن المدينة و الناس .. و عن الجذوة التي تنير أعماق المدن لتظل شابة رغم وطأة الحياة
تصاب المدن بالضجر عندما تبدأ بتكرار نفسها ، عندما تجد نفسها تتمدد في الأفق بلا هدف، أو إذا بدأت بالخوف من غيمة محملة بالمطر خشية الغرق ، وعندما ينفض عنها الناس في آخر يوم من الاختبارات وقبل بيات صيفي طويل وممل، وتصاب باليأس عندما تفقد قجرتها على خلق المشاعر الجميلة: اللقاءات العابرة والذكريات ، الذاكرة المتوثبة، البهجة ، المصادفة ، رعشة المسافر الحزينة لحظة مغادرة مطار المدينة ، والأهم من هذا وذاك: الحنين إلى الأماكن القديمة !..
تخيّل جرون تصميم بيئة خضراء مليئة بالمتاجر. مكان مغلق.. يظهر كما لو أنّه.. جزيرة للتواصل. مكان للوصول إليه، يجب على الأميركان النزول من سياراتهم. رأى جرون أنّ تصميمه سيكون حلاً معماريًا سحريًا، لم يسبقه أحد من العالمين إليه. سيكون حلاً للبيئة، وللتجارة، وللمشاكل المجتمعية التي رأها جرون. كلّ هذا يتم، بتشيد مبنىً واحدًا. قدّم جرون حلّه السحري لأميركا: المجمعات التجارية.
كانت رؤية جرون الكاملة للمجمع، أن يكون أكثر من مجرد متاجر. هو تخيّلها كخليط من المرافق والشقق والمكاتب والمراكز الصحّية ورياضٍ للأطفال ومكتبات، وكونها كانت تلك الحقبة في الخمسينات من القرن الماضي، فكذلك هي.. ملاجئ. رسم جرون مخطّطات نظرية لكيف تظهر المجمعات التجارية. رسمها منذ وقتٍ طويل قبل أن يبني مجمعًا واحدًا. حتى أن أتى عام 1952، ووجد من يرغب ببناء أول مجمع تجاري مغلق ومكيّف. كان هذا في مدينة أداينا في ولاية مينسوتا.
افتتح المتجر في عام 1956، والذي أطلق عليه: ساوثديل. وإن كان للمجمعات أم، فساوثديل هو أم المجمعات. فقد أخذ جرون بنسخه في كلّ مكان. والحقيقة، أنّ المجمع لم يكن خليطًا من المرافق كما تخيله جرون. فلم يعش الناس هناك، ولم تفتح رياض الأطفال، ولا مكاتب للبريد. إلاّ أنّ المجمع كان مليئًا بالمتاجر بكل أنواعها. وكان كذلك مليئًا بالمتسوقين.
من الخارج، كان ساوثديل، مملاً، ليس به ما تعجب به، أو ما تنظر إليه. هو تمامًا، كأي مجمعٍ تجاري، مبنى مربع بواجهات رتيبة وأبواب ضخمة ودون أي نوافذ تذكر ودون لافتات. فكان الطعم والإغراء والعرض المذهل يتم داخل المجمع لا خارجه. كان المجمع هو أشبه بالمكان المقدّس للأميركان القاطنين في الأرياف والضواحي، وكون الأميركان كانوا يحبّون قيادة السيارة، فكان الذهاب لتلك المجمعات نزهة. لكن هذا، ومع مرور الوقت، بدأ يقلل الزيارة للمدن الكبيرة، ويضعف اقتصادها.
